حكايات من غزة
كنت هناك
----------
ماذا قال الفلسطينيون لي عن مصر ؟
--------
في البداية كنت قلقا للغاية من ردود فعل الفلسطينين تجاه شخصي عندما يعرفون اني مصري وهم يرون ان النظام المصري هو من يغلق في وجوههم معبر رفح ويمنح امدادهم بابسط احتياجاتهم الانسانية ، كنت اخشي ان يكون لبعضهم ردود فعل سلبية تجاه كل المصريين بسبب المواقف الرسمية للنظام ولكن اكتشفت من اول وهلة كم كنت مخطئا في سوء ظني هذا ، اذهلني احتفاء الفلسطينيين بنا كأطباء مصريين علي وجه الخصوص ، كان الجميع عندما يعرفون اننا مصريين تبتسم وجوههم ويحتضنونا وتظهر السعادة البالغة علي وجوههم في كلامهم
عندما اركب تاكسي مع زميل لي ونتحدث باللهجة المصرية المحببة الي الشعب الفلسطيني يتعرف علينا السائق ويرحب بنا ويشكرنا اننا جئنا لمداوة الجرحي رغم خطورة الاوضاع هناك ، يصمم الا يأخذ منا اي نقود يقول انتم جئتم من اجلنا ودا اقل شيء نقدر نقدمه لاخواتنا المصريين
اكتشفت ان مصر هي عشق يسري بدماء الفلسطينين ، ما ان تذكر مصر حتي تبكي العيون ، كل فلسطيني تحتل مصر جزء من قلبه ، سائق التاكسي البسيط قال لي : معلش احنا عشمانين في مصر عشان مصر دي ام لفلسطين وربنا لما خلق مصر وصاها علي فلسطين ... صدقني
عجوز من جباليا قالت لي : ابقوا وصوا الريس مبارك علينا شوية هو برده ما يرضاش لينا الجوع والموت قولوا له ولادك في غزة محتاجينك ما تسيبيهمش
عجوز تبلغ من العمر سبعون عاما صممت ان نتناول طعاما في بيتها الذي تم تدمير اغلب اجزاءه فلم يتبقي منه سوي جدار واحد جلسنا تحت ظله بين الركام ، كانت تطعمنا بيديها وتقول انتم ابنائي انا مصر دي جوا دمي هي اللي علمت ولادي وخلتهم حاجة تشرف ، نفسي اروح مصر اشرب من النيل وارجع تاني ، انتم عارفين ان النيل دا ميته جاية من الجنة وان اللي بيشرب منه ربنا بيرضي عنه
في جباليا وعلي قمة جبل الريس وبالقرب من مقبرة الشهداء التي تقع علي الخط الفاصل بين اسرائيل وقطاع غزة وقف هذا الشيخ الابيض الوجه والشعر واللحية عم يوسف وقف يشير لي الي نقاط اقسم ان هذه النقاط شهدت معارك ضارية سجلها الابطال المصريون في حرب 67 وانه رأهم يروون هذه البقعة بدمائهم من اجل فلسطين ، قال لي مصر هي الكبري مهما حاول البعض التشكيك في ذلك ، مصر هي الوحيدة التي قدمت دماء ابناءها من اجل فلسطين منذ ال 48 ، مصر هي التي اختارت دوما ان تكون اول من يضحي من اجل القضية
في الزيتون وفي منطقة جحر الديك حيث تم تجريف مساحات شاسعة من اشار الزيتون قابلت عم امين صاحب الوجه الثمانيني الذي حفرت فيه الايام علاماتها وقف في حقله الذي جرفته جرافات ودبابات الاسرائيليين ليقول لي : سأزرع ارضي من جديد ، قول لاخوتنا المصريين اننا بخير واننا عارفين انهم الحليف الاول لينا في العالم كله عشان هما الشعب الوحيد اللي اختلط دمنا بدمه وحارب معانا في كل الحروب ، طمنهم وقول لهم اننا صامدين لغاية ما نموت هنا
في كل شارع وكل حارة ذهبت اليه ادركت كم يعشق الفلسطينيين مصر والمصريين وكم يقرون بفضلهم وكرمهم ودورهم تجاه فلسطين ، بكيت عندما قابلت ابو رضوان وهو رجل فلسطيني في منتصف الستينات قال لي :
لو كان جمال عبد الناصر عايش ما كانش جري لنا كدا ، عبد الناصر حارب هنا في الفالوجا ودمه سقي فلسطين ما كانش هيرضي ابدا اننا نتحاصر ونجوع
مصر هي اللي علمتنا وعبد الناصر كمان كان بيدي مرتبات لكل اللي انت شايفهم من رموز فتح وحماس اللي اتعلموا في مصر وهما شباب ، احنا واثقين اننا مش لوحدنا مصر ورانا ليوم الدين
في نهاية الرحلة وبعد لقطات عدة ادركت ان مصر وفلسطين واحد مهما بقيت الحياة
أحرقنا الفلسطينين وسنحرق المصريين وكل العرب
----------------
حلم اليهود الدائم ان يتوصلوا الي سلاح يبيدون به العرب دون ان يمسهم ضرر منه مع قربهم الشديد لذلك كنا نسمع دوما عن سعي اليهود لتصنيع قنبلة بيولوجية تدمر الجنس العربي فقط باستخدام الجينات وكنا نسمع عن عزم اليهود عن تصنيع قنابل نووية محدودة التأثير لا ينتقل ضررها الي الاماكن المجاورة ، كنا نظن كل ذلك هراء وصناعة اوهام ليخاف العرب اكثر من اسرائيل وليرضخوا لها مجبرين خوف قوتها وبطشها
عندما ذهبت الي غزة ورأيت ما صنعته الة الحرب الصهيونية بالناس والحياة أدركت ان اليهود قد نجحوا لحد كبير في تحقيق حلمهم القديم ، رأيت قذائف الفوسفور الابيض وقنابل الدايم التي هي من الاسلحة المحرمة دوليا والتي استخدمتها اسرائيل بكثافة اثناء الحرب الاخيرة
حتي نفهم اكثر علينا ان نراجع بداية هذه الصور البشعة لضحايا الفوسفور الابيض وقنابل الدايم حتي ندرك ما الذي ينتظرنا ان لم نستعد ونطور انفسنا لنملك سلاح ردع حقيقي وليس كوميدي كالذي رأيناه في فيلم ليلة سقوط بغداد ، اعتذر لكل الاصدقاء عن قسوة الصور وارجوا من مرهفي الاحساس ان لا يرونها لانها صادمة ولكنها يجب ان تنشر وتوثق حتي ندرك حجم الخطر الذي يحيط بنا كمصريين وعرب
عندما يصاب الانسان بقذيفة تحتوي علي الفوسفور الابيض فان حبيبات الفوسفور تخترق الجسم بسرعة شديدة لان الفوسفور الابيض يذوب في الدهون بسهولة لذلك ينفذ لانسجة الجسم ليحرقها تماما بسرعة كبيرة مخترقا كل الطبقات حتي يصل للعظام نفسها في ثوان ويصيبها باحتراق كامل في تفاعل داخلي سريع كما ان استنشاق الابخرة المتصاعدة من هذه القذائف يؤدي الي فشل بالكبد والكلي عن اتمام وظائفهم ويعرض المصاب الي اعراض متعددة تؤدي للوفاة بعد فترة قصيرة
هذه المعلومات عرفناها من اساتذة مصريين واوروبيين مختصين فحصوا حالات الاصابات بقسم الحروق بالمستشفيات في غزة ليأكدوا ان هذه الحالات هي حالات اصابة نتيجة الدايم والفوسفور الابيض
امام عيني في مستشفي الشفاء كنت اري الاطباء عاجزين عن فعل اي شيء لهؤلاء الضحايا ، كان المصاب يأتي بحروقه ويبدوا جسده ، كأنه خروف تم شوائه علي فحم وجمر متقد ، الانسجة داكنة سوداء ، تهتك رهيب بالانسجة ، اذا امسكت المريض من يده انخلعت وانفصلت عن جسده ، اذا شددته من قدمه تفاجيء انها تصبح منفصلة في يديك ، تغالب مشاعر القيء فكل ما رأيته في حياتك من حالات اصابات وحوادث وتشوهات كلها لا تعتبر شيئا امام ما تراه الان بسبب الفوسفور الابيض والدايم
كان الجميع يتعجبون عندما يرون في صور الاشعة مدخلا للقذيفة ولا يجدون لها مخرجا في جسم المصاب ، بما يؤكد انها انصهرت داخل الجسم لتحرق كل الانسجة التي مرت عليها واخترقتها
قابلت اطفالا وجوههم كالقمر تم بتر اطرافهم السفلي وهم في عمر الزهور لا لذنب اقترفوه سوي انهم ينتمون الي هذا الشعب وهذه الامة ، كانت الحالات المصابة تجبر الجميع علي اخذ قرار بالبتر وليس شيء غيره حتي لا تتعفن بقية الانسجة ويموت المصاب ، كان صعبا علي زملائنا اطباء العظام او الجراحة ان يفعلوا ذلك ولكن لم يكن هناك مفر
تحرير بنت صغيرة عمرها 8 سنوات ، اذا رأيت وجهها سيبهرك جمالها الاخاذ بعيونها الزرقاء ووجهها الابيض كالحليب ، رفع ابوها الغطاء عن جسدها لنري انها بلا جزء سفلي ، ستشعر انها بنتك او اختك الصغيرة ستبكي مثل ما بكينا ، ستبغض الصهاينة اكثر واكثر وسترغب في الانتقام من هذه الوحوش القاتلة التي حولت حياة البشر الي جهنم
عاصم شاب في السابعة عشر من عمره يدرس بكلية الهندسة اصابت شظايا الدايم ذراعه وقدمه ليتم بترهم بالكامل ، عندما قبلت رأسه واخذت اواسيه ، ابتسم وقال لي ، انني احسد اطرافي فقد سبقتني الي الجنة ، يارب يلحق باقي جسدي باطرافي لاكون كلي في الجنة
سهيلة ام شابة تبلغ من العمر عشرون عاما استشهد زوجها وطفليها عندما قصف اليهود بيتهم بالاف 16 اصابتها شظية في عينها اليمني اصبحت تري الدنيا الان بعين واحدة قالت لي : الا تستحق الجنة يا اخي ان نفقد عيوننا من اجلها ، ان الله هو من اعطانا جسدنا كله فاذا اخذ بعضه فلما نحزن انه هو المالك الرحيم
باسم شاب في الثلاثين من عمره اب لخمسة اطفال استشهد اربعة منهم بعد اختناقهم بقذائف الفوسفور واصيبت زوجته بشظية بترت ساقها وقفت معه وهو يتفقد زوجته قال لي : شفت رحمة ربنا بي ان زوجتي عايشة وربنا ما حرمنيش من كل الولاد وساب لي مريم ، انا في خير كبير احمد الله عليه
ام مهند ارملة استشهد زوجها منذ حرب 67 ولم تتزوج بعده ، في جبل الريس بجباليا الذي حولوه الي ركام بكل ما فيه من بشر وحيوان وشجر ، وقفت معها علي انقاض بيتها الذي كان يحوي كل ابناءها واحفادها العشرين ، حاولت ان اواسيها وانا اري حالها وقد فقدت كل ما تملك هي وابناءها بعد ان سرق اليهود ذهبها وكل اموالها قبل ان يفجروا بيتها قالت لي : لا تأسي لحالنا نحن لا نحتاج الي من يواسينا ، قل للمتخاذلين الذين خذلونا واسوا انفسكم انتم من تحتاجون الي المواساة فأنتم موتي ونحن احياء رغم كل شيء وسنظل مهما فعل اليهود
تحية هي زوجة لشهيد من المقاومة وقفت علي انقاض بيتها وركامه بعد ان كان 3 طوابق ، وقفت وحولها 5 اطفال اكبرهم في الخامسة عشر سألتها كيف احساسها بعد فقد الزوج والبيت وكل ما تمتلك في الدنيا ؟ قالت : انا لم افقد شيئا بل كسبت كل شيء ، كسبت شهيد سيشفع لي وادخل معه الجنة وكسبت بيتا افضل واجمل سيعوضني الله به عن بيتي في الدنيا ، هل تري في ذلك خسارة لي ، انه ربح عظيم
حاول الصهاينة ان يكسروا ارادة هذا الشعب بالاجساد المحترقة والاطراف المبتورة ، حالوا ان يخيفوا الناس من اختيارهم لمشروع المقاومة بهذه الاسلحة الرهيبة ، حاولوا ان تكون هذه الاصابات عبرة للباقين علي قيد الحياة حتي يلفظوا المقاومة والمقاومين ، ولكن فاجئهم هذا الشعب بمزيد من الالتفاف حول المقاومة ، قالت لي كاملة العايدي وهي فلسطينية من اصل مصري تبلغ من العمر تسعون عاما : لم يعد لدينا ما نخسره ولا ما نخاف عليه فلنقاوم ولنقاوم حتي نموت بكرامتنا رافعين رؤوسنا وهاماتنا
هناك في حي الزيتون دخلت بيوتا حرقها اليهود واتلفوا محتوياتها وهم ينسحبون غلا وحقدا ودناوة ، كتبوا علي جدرانها بالعبرية كلاما مسيئا للرسول ص ترجمه لي مرافقي الفلسطيني الذي يجيد العبرية، وكتبوا في احد الاركان : حرقنا الفلسطنيين بالفوسفور وسنحرق المصريين وكل العرب وفي جدار اخر كتبوا سبا بذيئا لشخص الرئيس جمال عبد الناصر
سألت مرافقي الفلسطيني لماذا كل هذا ؟؟ قال لي لانهم يكرهون مصر للغاية ويرون ان مصر هي التي تقف لهم وتوقف حلمهم في دولتهم الكبري من الفرات الي النيل
ماذا ننتظر حتي نفيق وننتبه لخطورة الوضع ، سنن الكون تقول ان لا سلام مع اليهود وانهم اهل غدر وسفاكي دماء متعتهم في القتل قتلوا اكثر من مائتي نبي ورقصوا علي اشلائهم ، هم يخدروننا بالكلام المعسول حتي تحين لحظة الانقضاض علينا ليفعلوا بنا ما فعلوه بأهل غزة
اننا لا ندعوا الي حرب ولا مواجهة غير محسوبة ولكن ندعوا الي اعداد انفسنا واعداد ما يرهبهم منا فهم لا يفهمون غير لغة القوة ولغة الخوف ، عندما يرون قوة خصمهم يخافون منه ، المقاومة بامكانياتها البسيطة صنعت هذا السلاح سلاح الخوف ، اكثر ما رأيته من مخلفات في المناطق والبيوت التي احتلها اليهود اثناء الحرب الاخيرة كان بامبرز الجنود الصهاينة الذين كانوا يلبسونه ويقضون حاجتهم به لانهم يخافون ان يتحركوا من اماكنهم خوف اقتناص المقاومة لهم
قبل ان تفاجئنا قنابل الدايم في بولاق وقبل ان يحرق الفوسفور الابيض اهلنا في الشرقية والمنصورة وقبل ان نري مدارسنا وبيوتنا تحولت الي ركام من قصفهم، علينا ان نجهد انفسنا في اعداد ما يشكل حاجزا ورادعا لهم ولنأخذ بالاسباب ، اسرائيل لن تستخدم ابدا القنابل النووية ولكنها ستسخدم الدايم والفوسفور الابيض لتكسر ارادتنا وتجعلنا عبيدا لها
واهم من يظن ان لليهود عهد ، فقد خانوا عهد الله ورسله فهل سيحفظون عهد البشر ، كثيرا من الكتابات العبرية التي تركها جنود الصهاينة علي جدران البيوت التي كانوا متحصنين بداخلها ، كثيرا من هذه الكتابات سب لمصر والمصريين وجمال عبد الناصر والسادات ، سألت الفلسطينين سكان هذه البيوت الذين ترجموا لي هذه العبارات سألتهم لماذا يسبون مصر والمصريين ؟ قالوا لي : لان لهم ثأر عند المصريين من حرب 73 ولأنهم يرون ان المصريين هم اكثر من حاربهم في فلسطين واكثر من قدم الشهداء من اجل فلسطين ولذلك فهي عدوهم الاكبر الذي يقف امام مشروعهم
بعيدا عن اي حسابات ، بعيدا عن اي مزايدات ، بعيدا عن اي ايدلوجيات ، الخطر علي الابواب يتهدد الجميع ، مستقبلنا ومستقبل ابنائنا في خطر ، كرة اللهب التي القتها اسرائيل لن تتوقف لاننا كلنا مستهدفون ، انها لحظة تاريخية يجب ان نسمو فيها فوق أي خلافات وفوق اي مصالح ضيقة
نحن أمة في خطر نحن أمة في خطر فماذا نحن فاعلون ؟؟؟